فصل: تفسير الآيات رقم (1- 12)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 36‏]‏

‏{‏سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ‏}‏‏.‏

قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ‏}‏، قال‏:‏ وعيد من الله للعباد، وليس بالله شغل وهو فارغ‏.‏ وكذا قال الضحاك‏:‏ هذا وعيد‏.‏ وقال قتادة‏:‏ قد دنا من الله فراغ لخلقه‏.‏ وقال ابن جريج‏:‏ ‏{‏سَنَفْرُغُ لَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ سنقضي لكم‏.‏

وقال البخاري‏:‏ سنحاسبكم ، لا يشغله شيء عن شيء، وهو معروف في كلام العرب، يقال لأتفرغن لك‏"‏ وما به شغل، يقول‏:‏ ‏"‏لآخذنك على غِرَّتك‏"‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أَيُّهَا الثَّقَلانِ‏}‏ الثقلان‏:‏ الإنس والجن، كما جاء في الصحيح‏:‏ ‏"‏يسمعها كل شيء إلا الثقلين‏"‏ وفي رواية‏:‏ ‏"‏إلا الجن والإنس‏"‏‏.‏ وفي حديث الصور‏:‏ ‏"‏الثقلان الإنس والجن‏"‏ ‏{‏فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ‏}‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ‏}‏ أي‏:‏ لا تستطيعون هربا من أمر الله وقدره، بل هو محيط بكم، لا تقدرون على التخلص من حكمه، ولا النفوذ عن حكمه فيكم، أينما ذهبتم أحيط بكم، وهذا في مقام المحشر، الملائكة محدقة بالخلائق، سبع صفوف من كل جانب، فلا يقدر أحد على الذهاب ‏{‏إِلا بِسُلْطَانٍ‏}‏ أي‏:‏ إلا بأمر الله، ‏{‏يَقُولُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ‏.‏ كَلا لا وَزَرَ‏.‏ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏10- 12‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 27‏]‏

؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنْتَصِرَانِ‏}‏‏.‏

قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس‏:‏ الشواظ‏:‏ هو لهب النار‏.‏

وقال سعيد بن جبير، عن ابن عباس‏:‏ الشواظ‏:‏ الدخان‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ هو‏:‏ اللهيب الأخضر المنقطع‏.‏ وقال أبو صالح الشواظ هو اللهيب الذي فوق النار ودون الدخان‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ ‏{‏شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ‏}‏ سيل من نار‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَنُحَاسٌ‏}‏ قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَنُحَاسٌ‏}‏ دخان النار‏.‏ وروي مثله عن أبي صالح، وسعيد بن جبير، وأبي سنان‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ والعرب تسمي الدخان نحاسا- بضم النون وكسرها- والقراء مجمعة على الضم، ومن النحاس بمعنى الدخان قول نابغة جعدة يُضِيءُ كَضَوءِ سراج السَّلِي *** ـط لم يَجْعَل اللهُ فيه نُحَاسا يعني‏:‏ دخانا، هكذا قال‏.‏

وقد روى الطبراني من طريق جُويَبْر، عن الضحاك؛ أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس عن الشواظ فقال‏:‏ هو اللهب الذي لا دخان معه‏.‏ فسأله شاهدا على ذلك من اللغة، فأنشده قول أمية بن أبي الصلت في حسان‏:‏

ألا من مُبلغٌ حَسًّان عَنِّي *** مُغَلْغلةً تدبّ إلى عُكَاظ

أليس أبُوكَ فِينَا كان قَينًا *** لَدَى القينَات فَسْلا في الحَفَاظ

يَمَانِيًّا يظل يَشدُ كِيرًا *** وينفخ دائبًا لَهَبَ الشُّواظ

قال‏:‏ صدقت، فما النحاس‏؟‏ قال‏:‏ هو الدخان الذي لا لهب له‏.‏ قال‏:‏ فهل تعرفه العرب‏؟‏ قال‏:‏ نعم، أما سمعت نابغة بني ذبيان يقول

يُضِيءُ كَضَوء سَراج السَّليط *** لَمْ يَجْعَل اللهُ فيه نُحَاسا

وقال مجاهد‏:‏ النحاس‏:‏ الصُّفّر، يذاب فيصب على رؤوسهم‏.‏ وكذا قال قتادة‏.‏

وقال الضحاك‏:‏ ‏{‏ونحاس‏}‏ سيل من نحاس‏.‏

والمعنى على كل قول‏:‏ لو ذهبتم هاربين يوم القيامة لردتكم الملائكة والزبانية بإرسال اللهب من النار والنحاس المذاب عليكم لترجعوا؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فَلا تَنْتَصِرَانِ‏.‏ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏37- 45‏]‏

‏{‏فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آَنٍ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ‏}‏‏.‏

يقول ‏[‏تعالى‏]‏‏:‏ ‏{‏فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ‏}‏ يوم القيامة، كما دلت عليه هذه الآية مع ما شاكلها من الآيات الواردة في معناها، كقوله‏:‏ ‏{‏وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 16‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنزلَ الْمَلائِكَةُ تَنزيلا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏25‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ‏.‏ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ‏}‏ ‏[‏الانشقاق‏:‏1، 2‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ‏}‏ أي‏:‏ تذوب كما يذوب الدّرْدي والفضة في السبك، وتتلون كما تتلون الأصباغ التي يدهن بها، فتارة حمراء وصفراء وزرقاء وخضراء، وذلك من شدة الأمر وهول يوم القيامة العظيم‏.‏ وقد قال الإمام أحمد‏:‏

حدثنا أحمد بن عبد الملك، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الصهباء، حدثنا نافع أبو غالب الباهلي، حدثنا أنس بن مالك قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏يبعث الناس يوم القيامة والسماء تَطِش عليهم‏"‏‏.‏

قال الجوهري‏:‏ الطش‏:‏ المطر الضعيف‏.‏

وقال الضحاك، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَرْدَةً كَالدِّهَانِ‏}‏، قال‏:‏ هو الأديم الأحمر‏.‏ وقال أبو كُدَيْنة، عن قابوس، عن أبيه، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ‏}‏‏:‏ كالفرس الورد‏.‏ وقال العوفي، عن ابن عباس‏:‏ تغير لونها‏.‏ وقال أبو صالح‏:‏ كالبِرْذَون الورد، ثم كانت بعد كالدهان‏.‏

وحكى البَغَوي وغيره‏:‏ أن الفرس الورد تكون في الربيع صفراء، وفي الشتاء حمراء، فإذا اشتد البرد اغْبَرَّ لونها‏.‏

وقال الحسن البصري‏:‏ تكون ألوانا‏.‏ وقال السدي‏.‏ تكون كلون البغلة الوردة، وتكون كالمهل كدردي الزيت‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏كَالدِّهَان‏}‏‏:‏ كألوان الدهان‏.‏ وقال عطاء الخراساني‏:‏ كلون دُهْن الوَرْد في الصفرة‏.‏ وقال قتادة‏:‏ هي اليوم خضراء، ويومئذ لونها إلى الحمرة يوم ذي ألوان‏.‏ وقال أبو الجوزاء‏:‏في صفاء الدهن‏.‏ وقال ‏[‏أبو صالح‏]‏ بن جريج‏:‏ تصير السماء كالدهن الذائب، وذلك حين يُصيبها حر جهنم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ‏}‏، وهذه كقوله‏:‏ ‏{‏هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ‏.‏ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ‏}‏ ‏[‏المرسلات‏:‏35، 36‏]‏، فهذا في حال، وثَمّ حال يسأل الخلائق فيها عن جميع أعمالهم، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ‏.‏ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏92، 93‏]‏؛ ولهذه قال قتادة‏:‏ ‏{‏فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ‏}‏، قال‏:‏ قد كانت مسألة، ثم ختم على أفواه القوم، وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون‏.‏

قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس‏:‏ لا يسألهم‏:‏ هل عملتم كذا وكذا‏؟‏ لأنه أعلم بذلك منهم، ولكن يقول‏:‏ لم عملتم كذا وكذا‏؟‏ فهو قول ثان‏.‏

وقال مجاهد في هذه الآية‏:‏ لا يسأل الملائكة عن المجرم، يُعْرَفُون بسيماهم‏.‏

وهذا قول ثالث‏.‏ وكأن هذا بعد ما يؤمر بهم إلى النار، فذلك الوقت لا يسألون عن ذنوبهم، بل يقادون إليها ويلقون فيها، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ‏}‏ أي‏:‏ بعلامات تظهر عليهم‏.‏

وقال الحسن وقتادة‏:‏ يعرفونهم باسوداد الوجوه وزرقة العيون‏.‏

قلت‏:‏ وهذا كما يعرف المؤمنون بالغرة والتحجيل من آثار الوضوء‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأقْدَامِ‏}‏ أي‏:‏ تجمع الزبانية ناصيته مع قدميه، ويلقونه في النار كذلك‏.‏

وقال الأعمش عن ابن عباس‏:‏ يؤخذ بناصيته وقدمه، فيكسر كما يكسر الحطب في التنور‏.‏

وقال الضحاك‏:‏ يجمع بين ناصيته وقدميه في سلسلة من وراء ظهره‏.‏

وقال السدي‏:‏ يجمع بين ناصية الكافر وقدميه، فتربط ناصيته بقدمه، ويُفتل ظهره‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا أبو توبة الربيع بن نافع، حدثنا معاوية بن سلام، عن أخيه زيد بن سلام أنه سمع أبا سلام- يعني جده- أخبرني عبد الرحمن، حدثني رجل من كندة قال‏:‏ أتيت عائشة فدخلت عليها، وبيني وبينها حجاب، فقلت‏:‏ حدثك رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يأتي عليه ساعة لا يملك لأحد فيها شفاعة‏؟‏ قالت‏:‏ نعم، لقد سألته عن هذا وأنا وهو في شِعَار واحد، قال‏:‏ ‏"‏نعم حين يوضع الصراط، ولا أملك لأحد فيها شفاعة، حتى أعلم أين يسلك بي‏؟‏ ويوم تبيض وجوه وتسود وجوه، حتى أنظر ماذا يفعل بي- أو قال‏:‏ يوحى- وعند الجسر حين يستحد ويستحر‏"‏ فقالت‏:‏ وما يستحد وما يستحر‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏يستحد حتى يكون مثل شفرة السيف، ويستحر حتى يكون مثل الجمرة، فأما المؤمن فيجيزه لا يضره، وأما المنافق فيتعلق حتى إذا بلغ أوسطه خر من قدمه فيهوي بيده إلى قدميه، فتضربه الزبانية بخطاف في ناصيته وقدمه، فتقذفه في جهنم، فيهوي فيها مقدار خمسين عاما‏"‏‏.‏ قلت‏:‏ ما ثقل الرجل‏؟‏ قالت‏:‏ ثقل عشر خلفات سمان، فيومئذ يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام‏.‏

هذا حديث غريب ‏[‏جدا‏]‏ ، وفيه ألفاظ منكر رفعها، وفي الإسناد من لم يُسَمّ، ومثله لا يحتج به، والله أعلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ‏}‏ أي‏:‏ هذه النار التي كنتم تكذبون بوجودها ها هي حاضرة تشاهدونها عيانًا، يقال لهم ذلك تقريعا وتوبيخا وتصغيرا وتحقيرا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ‏}‏ أي‏:‏ تارة يعذبون في الجحيم، وتارة يسقون من الحميم، وهو الشراب الذي هو كالنحاس المذاب، يقطع الأمعاء والأحشاء، وهذه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذِ الأغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ‏.‏ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 71، 72‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏آن‏}‏ أي‏:‏ حار وقد بلغ الغاية في الحرارة، لا يستطاع من شدة ذلك‏.‏

قال ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ‏}‏ قد انتهى غلْيه، واشتد حرّه‏.‏ وكذا قال مجاهد، وسعيد بن جبير، والضحاك، والحسن، والثوري، والسدي‏.‏

وقال قتادة‏:‏ قد أنَى طبخه منذ خلق الله السموات والأرض‏.‏ وقال محمد بن كعب القرظي‏:‏ يؤخذ العبد فيحرّكُ بناصيته في ذلك الحميم، حتى يذوب اللحم ويبقى العظم والعينان في الرأس‏.‏ وهي كالتي يقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ‏}‏‏.‏ والحميم الآن‏:‏ يعني الحار‏.‏ وعن القرظي رواية أخرى‏:‏ ‏{‏حَمِيمٍ آنٍ‏}‏ أي‏:‏ حاضر‏.‏ وهو قول ابن زيد أيضا، والحاضر، لا ينافي ما روي عن القرظي أولا أنه الحار، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ‏}‏ ‏[‏الغاشية‏:‏ 5‏]‏ أي حارة شديدة الحر لا تستطاع‏.‏ وكقوله‏:‏ ‏{‏غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏53‏]‏ يعني‏:‏ استواءه ونضجه‏.‏ فقوله‏:‏ ‏{‏حَمِيمٍ آنٍ‏}‏ أي‏:‏ حميم حار جدا‏.‏ ولما كان معاقبة العصاة المجرمين وتنعيم المتقين من فضله ورحمته وعدله ولطفه بخلقه، وكان إنذاره لهم عذابه وبأسه مما يزجرهم عما هم فيه من الشرك والمعاصي وغير ذلك، قال ممتنا بذلك على بريته‏:‏ ‏{‏فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏46- 53‏]‏

‏{‏وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ذَوَاتَا أَفْنَانٍ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ‏}‏‏.‏

قال ابن شَوْذب، وعطاء الخراساني‏:‏ نزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ‏}‏ في أبي بكر الصديق‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا محمد بن مصفى، حدثنا بَقيَّة، عن أبي بكر بن أبي مريم، عن عطية بن قيس في قوله‏:‏ ‏{‏وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ‏}‏‏:‏ نزلت في الذي قال‏:‏ أحرقوني بالنار، لعلي أضل الله، قال‏:‏ تاب يوما وليلة بعد أن تكلم بهذا، فقبل الله منه وأدخله الجنة‏.‏

والصحيح أن هذه الآية عامة كما قاله ابن عباس وغيره، يقول تعالى‏:‏ ولمن خاف مقامه بين يدي الله، عز وجل، يوم القيامة، ‏{‏وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏40‏]‏، ولم يطغ، ولا آثر الدنيا، وعلم أن الآخرة خير وأبقى، فأدى فرائض الله، واجتنب محارمه، فله يوم القيامة عند ربه جنتان، كما قال البخاري، رحمه الله‏.‏

حدثنا عبد الله بن أبي الأسود، حدثنا عبد العزيز بن عبد الصمد العَمّي، حدثنا أبو عِمْران الجَوْني، عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس، عن أبيه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏جنتان من فضة، آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم عز وجل إلا رداءُ الكبرياء على وجهه في جنة عدن‏"‏‏.‏

وأخرجه بقية الجماعة إلا أبا داود، من حديث عبد العزيز، به‏.‏

وقال حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أبي بكر بن أبي موسى، عن أبيه- قال حماد‏:‏ ولا أعلمه إلا قد رفعه- في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ‏}‏، وفي قوله‏:‏ ‏{‏وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ‏}‏ ‏[‏قال‏]‏‏:‏‏}‏ جنتان من ذهب للمقربين، وجنتان من ورِق لأصحاب اليمين‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا زكريا بن يحيى بن أبان المصري، حدثنا ابن أبي مريم، أخبرنا محمد بن جعفر، عن محمد بن أبي حَرْمَلَة، عن عطاء بن يَسَار، أخبرني أبو الدرداء؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ يوما هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ‏}‏، فقلت‏:‏ وإن زنى أو سرق‏؟‏ فقال‏:‏ ‏{‏وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ‏}‏، فقلت‏:‏ وإن زنى وإن سرق‏؟‏ فقال‏:‏ ‏{‏وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ‏}‏‏.‏ فقلت‏:‏ وإن زنى وإن سرق يا رسول الله‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏وإن رغم أنف أبي الدرداء‏"‏‏.‏

ورواه النسائي من حديث محمد بن أبي حَرْمَلَة، به ورواه النسائي أيضا عن مؤمِّل بن هشام، عن إسماعيل، عن الجُرَيري، عن موسى، عن محمد بن سعد بن أبي وقاص، عن أبي الدرداء، به‏.‏ وقد روي موقوفًا على أبي الدرداء‏.‏ وروي عنه أنه قال‏:‏ إن من خاف مقام ربه لم يزْنِولم يسرق‏.‏

وهذه الآية عامة في الإنس والجن، فهي من أدل دليل على أن الجن يدخلون الجنة إذا آمنوا واتقوا؛ ولهذا امتن الله تعالى على الثقلين بهذا الجزاء فقال‏:‏ ‏{‏وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ‏.‏ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ‏}‏‏.‏

ثم نعت هاتين الجنتين فقال‏:‏ ‏{‏ذَوَاتَا أَفْنَانٍ‏}‏ أي‏:‏ أغصان نَضِرَة حسنة، تحمل من كل ثمرة نضيجة فائقة، ‏{‏فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ‏}‏‏.‏ هكذا قال عطاء الخراساني وجماعة‏:‏ إن الأفنان أغصان الشجَر يمس بعضُها بعضا‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا عمرو بن علي، حدثنا مسلم بن قتيبة، حدثنا عبد الله بن النعمان، سمعت عكرمة يقول‏:‏ ‏{‏ذَوَاتَا أَفْنَانٍ‏}‏، يقول‏:‏ ظِل الأغصان على الحيطان، ألم تسمع قول الشاعر حيث يقول‏:‏

ما هاجَ شَوقَكَ من هَديل حَمَامَةٍ *** تَدْعُو على فَنَن الغُصُون حَمَاما

تَدْعُو أبا فَرْخَين صادف طاويا *** ذا مخلبين من الصقور قَطاما

وحكى البغوي، عن مجاهد، وعكرمة، والضحاك، والكلبي‏:‏ أنه الغصن المستقيم ‏[‏طوالا‏]‏‏.‏

قال‏:‏ وحدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا عبد السلام بن حرب، حدثنا عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏ذَوَاتَا أَفْنَانٍ‏}‏‏:‏ ذواتا ألوان‏.‏

قال‏:‏ و‏[‏قد‏]‏ روي عن سعيد بن جبير، والحسن، والسدي، وخُصَيف، والنضر بن عربي، وأبي سِنَان مثل ذلك‏.‏ ومعنى هذا القول أن فيهما فنونا من الملاذ، واختاره ابن جرير‏.‏

وقال عطاء‏:‏ كل غصن يجمع فنونا من الفاكهة، وقال الربيع بن أنس‏:‏ ‏{‏ذَوَاتَا أَفْنَانٍ‏}‏‏:‏ واسعتا الفناء‏.‏

وكل هذه الأقوال صحيحة، ولا منافاة بينها، والله أعلم‏.‏ وقال قتادة‏:‏ ‏{‏ذَوَاتَا أَفْنَانٍ‏}‏ ينبئ بسعتها وفضلها ومزيتها على ما سواها‏.‏

وقال محمد بن إسحاق، عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن أسماء قالت‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم- وذكر سدرة المنتهى- فقال‏:‏ ‏"‏يسير في ظل الفَنَن منها الراكب مائة سنة- أو قال‏:‏ يستظل في ظل الفَنَن منها مائة راكب- فيها فراش الذهب، كأن ثمرها القِلال‏"‏‏.‏

رواه الترمذي من حديث يونس بن بكير، به‏.‏

‏{‏فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ‏}‏ أي‏:‏ تسرحان لسقي تلك الأشجار والأغصان فتثمر من جميع الألوان، ‏{‏فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ‏}‏ قال الحسن البصري‏:‏ إحداهما يقال لها‏:‏ ‏"‏تسنيم‏"‏، والأخرى ‏"‏السلسبيل‏"‏‏.‏

وقال عطية‏:‏ إحداهما من ماء غير آسن، والأخرى من خمر لذة للشاربين‏.‏

ولهذا قال بعد هذا‏:‏ ‏{‏فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ‏}‏ أي‏:‏ من جميع أنواع الثمار مما يعلمون وخير مما يعلمون، ومما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ‏{‏فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ‏}‏‏.‏

قال إبراهيم بن الحكم بن أبان، عن أبيه، عن عكرمة، عن ابن عباس‏:‏ ما في الدنيا ثمرة حلوة ولا مرة إلا وهي في الجنة حتى الحنظلة‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ ليس في الدنيا مما في الآخرة إلا الأسماء، يعني‏:‏ أن بين ذلك بَونًا عظيما، وفرقًا بينا في التفاضل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏54- 61‏]‏

‏{‏مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ‏}‏‏.‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏مُتَّكِئِينَ‏}‏ يعني‏:‏ أهل الجنة‏.‏ والمراد بالاتكاء هاهنا‏:‏ الاضطجاع‏.‏ ويقال‏:‏ الجلوس على صفة التّربّع‏.‏ ‏{‏عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ‏}‏ وهو‏:‏ ما غلظ من الديباج‏.‏ قاله عكرمة، والضحاك وقتادة‏.‏

وقال أبو عِمْران الجَوْني‏:‏ هو الديباج المغَرّي بالذهب‏.‏ فنبه على شرف الظهارة بشرف البطانة‏.‏ وهذا من التنبيه بالأدنى على الأعلى‏.‏

قال أبو إسحاق، عن هُبَيْرة بن يَرِيم، عن عبد الله بن مسعود قال‏:‏ هذه البطائن فكيف لو رأيتم الظواهر‏؟‏

وقال مالك بن دينار‏:‏ بطائنها من إستبرق، وظواهرها من نور‏.‏

وقال سفيان الثوري- أو شريك- ‏:‏ بطائنها من إستبرق وظواهرها من نور جامد‏.‏

وقال القاسم بن محمد‏:‏ بطائنها من إستبرق، وظواهرها من الرحمة‏.‏

وقال ابن شَوْذَب، عن أبي عبد الله الشامي‏:‏ ذكر الله البطائن ولم يذكر الظواهر، وعلى الظواهر المحابس، ولا يعلم ما تحت المحابس إلا الله‏.‏ ذكر ذلك كله الإمام ابن أبي حاتم‏.‏

‏{‏وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ‏}‏ أي‏:‏ ثمرها قريب إليهم، متى شاءوا تناولوه على أي صفة كانوا، كما قال‏:‏ ‏{‏قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏23‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلا‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏14‏]‏ أي‏:‏ لا تمنع ممن تناولها، بل تنحط إليه من أغصانها، ‏{‏فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ‏}‏‏.‏

ولما ذكر الفرش وعظمتها قال بعد ذلك‏:‏ ‏{‏فِيهِنَّ‏}‏ أي‏:‏ في الفرش ‏{‏قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ‏}‏ أي غضيضات عن غير أزواجهن، فلا يرين شيئا أحسن في الجنة من أزواجهن‏.‏ قاله ابن عباس، وقتادة، وعطاء الخراساني، وابن زيد‏.‏

وقد ورد أن الواحدة منهن تقول لبعلها‏:‏ والله ما أرى في الجنة شيئا أحسن منك، ولا في الجنة شيئ أحب إلي منك، فالحمد لله الذي جعلك لي وجعلني لك‏.‏

‏{‏لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ‏}‏ أي‏:‏ بل هن أبكار عرب أتراب، لم يطأهن أحد قبل أزواجهن من الإنس والجن‏.‏ وهذه أيضا من الأدلة على دخول مؤمني الجن الجنة‏.‏

قال أرطاة بن المنذر‏:‏ سئل ضَمْرَةُ بن حبيب‏:‏ هل يدخل الجن الجنة‏؟‏ قال‏:‏ نعم، وينكحون، للجن جنيات، وللإنس إنسيات‏.‏ وذلك قوله‏:‏ ‏{‏لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ‏.‏ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ‏}‏‏.‏

ثم قال ينعتهن للخطاب‏:‏ ‏{‏كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ‏}‏، قال مجاهد، والحسن، ‏[‏والسدي‏]‏، وابن زيد، وغيرهم‏:‏ في صفاء الياقوت وبياض المرجان، فجعلوا المرجان هاهنا اللؤلؤ‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا محمد بن حاتم، حدثنا عُبِيدة بن حُمَيْد، عن عطاء بن السائب، عن عمرو بن ميمون الأودي ، عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إن المرأة من نساء أهل الجنة ليُرى بياض ساقها من وراء سبعين حلة من الحرير، حتى يرى مخها، وذلك أن الله تعالى يقول‏:‏ ‏{‏كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ‏}‏، فأما الياقوت فإنه حَجَرٌ لو أدخلت فيه سلكا ثم استصفيته لرأيته من ورائه‏"‏‏.‏

وهكذا رواه الترمذي من حديث عُبَيْدَة بن حميد وأبي الأحوص، عن عطاء بن السائب، به ‏.‏ ورواه موقوفا، ثم قال‏:‏ وهو أصح‏.‏وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، أخبرنا يونس، عن محمد بن سِيرِين، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏للرجل من أهل الجنة زوجتان من الحور العين، على كل واحدة سبعون حلة، يُرى مخ ساقها من وراء الثياب‏"‏‏.‏

تفرد به الإمام أحمد من هذا الوجه ‏.‏ وقد رواه مسلم من حديث إسماعيل بن عُلَيَّة، عن أيوب، عن محمد بن سيرين قال‏:‏ إما تفاخروا وإما تذكروا، الرجال أكثر في الجنة أم النساء‏؟‏ فقال أبو هريرة‏:‏ أو لم يقل أبو القاسم صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والتي تليها على أضْوَأ كوكب دُرّي في السماء، لكل امرئ منهم زوجتان اثنتان، يُرَى مخ سوقهما من وراء اللحم، وما في الجنة أعزب‏"‏‏.‏

وهذا الحديث مُخَرّجٌ في الصحيحين، من حديث هَمّام بن مُنَبّه وأبي زُرْعَة، عن أبي هريرة رضي الله عنه‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أبو النضر، حدثنا محمد بن طلحة، عن حميد عن أنس؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏لَغَدْوَةٌ في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها، وَلَقَابُ قوس أحدكم- أو موضع قيده- يعني‏:‏ سوطه- من الجنة خير من الدنيا وما فيها، ولو اطلعت امرأة من نساء أهل الجنة إلى الأرض لملأت ما بينهما ريحا، ولطاب ما بينهما، ولنَصِيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها‏"‏‏.‏

ورواه البخاري من حديث أبي إسحاق، عن حميد، عن أنس بنحوه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ‏}‏ أي‏:‏ ما لمن أحسن في الدنيا العمل إلا الإحسان إليه في الدار الآخرة‏.‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏26‏]‏‏.‏

وقال البغوي‏:‏ أخبرنا أبو سعيد الشَّريحِي، حدثنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرني ابن فَنجُوَيه، حدثنا ابن شيبة، حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن بَهْرَام، حدثنا الحجاج بن يوسف المُكْتَب، حدثنا بِشْر بن الحسين، عن الزبير بن عَدِيّ، عن أنس بن مالك قال‏:‏ قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ‏}‏، قال‏:‏ ‏"‏هل تدرون ما قال ربكم‏؟‏‏"‏ قالوا‏:‏ الله ورسوله أعلم‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏يقول هل جزاء ما أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة‏"‏‏.‏

ولما كان في الذي ذُكِرَ نعم عظيمة لا يقاومها عمل، بل مجرد تفضل وامتنان، قال بعد ذلك كله‏:‏ ‏{‏فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ‏}‏‏.‏

ومما يتعلق بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ‏}‏، ما رواه الترمذي والبغوي، من حديث أبي النضر هاشم بن القاسم، عن أبي عقيل الثقفي، عن أبي فروة يزيد بن سِنان الرّهاوي، عن بُكَيْر ابن فيروز، عن أبي هريرة، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة‏"‏‏.‏

ثم قال الترمذي‏:‏ غريب، لا نعرفه إلا من حديث أبي النضر‏.‏

وروى البغوي من حديث علي بن حُجْر، عن إسماعيل بن جعفر، عن محمد بن أبي حَرْمَلَة- مولى حويطب بن عبد العزى- عن عطاء بن يَسَار، عن أبي الدرداء؛ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص على المنبر وهو يقول‏:‏ ‏{‏وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ‏}‏، قلت‏:‏ وإن زنى وإن سرق يا رسول الله‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ‏}‏‏.‏ فقلت الثانية‏:‏ وإن زنى وإن سرق يا رسول الله‏؟‏ فقال ‏[‏رسول الله صلى الله عليه وسلم‏]‏ ‏{‏وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ‏}‏‏.‏ فقلت الثالثة‏:‏ وإن زنى وإن سرق يا رسول الله‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏وإن، رغم أنف أبي الدرداء‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏62- 78‏]‏

‏{‏وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ مُدْهَامَّتَانِ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ‏}‏‏.‏

هاتان الجنتان دون اللتين قبلهما في المرتبة والفضيلة والمنزلة بنص القرآن، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ‏}‏‏.‏

وقد تقدم في الحديث‏:‏ ‏"‏جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، فالأوليان للمقربين، والأخريان لأصحاب اليمين‏"‏‏.‏وقال أبو موسى‏:‏ جنتان من ذهب للمقربين، وجنتان من فضة لأصحاب اليمين‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ‏}‏ من دونهما في الدرج‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ من دونهما في الفضل‏.‏

والدليل على شرف الأوليين على الأخريين وجوه‏:‏ أحدها‏:‏ أنه نعت الأولين قبل هاتين، والتقديم يدل على الاعتناء ثم قال‏:‏ ‏{‏وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ‏}‏‏.‏ وهذا ظاهر في شرف التقدم وعلوه على الثاني‏.‏

وقال هناك‏:‏ ‏{‏ذَوَاتَا أَفْنَانٍ‏}‏‏:‏ وهي الأغصان أو الفنون في الملاذ، وقال هاهنا‏:‏ ‏{‏مُدْهَامَّتَان‏}‏ أي سوداوان من شدة الري‏.‏

قال ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏مُدْهَامَّتَان‏}‏ قد اسودتا من الخضرة، من شدة الري من الماء‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا ابن فُضَيْل، حدثنا عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏مُدْهَامَّتَان‏}‏‏:‏ قال‏:‏ خضراوان‏.‏ ورُوي عن أبي أيوب الأنصاري، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن أبي أَوْفَى، وعكرمة، وسعيد بن جُبَير، ومجاهد- في إحدى الروايات- وعطاء، وعطية العَوْفي، والحسن البصري، ويحيى بن رافع، وسفيان الثوري، نحو ذلك‏.‏

وقال محمد بن كعب‏:‏ ‏{‏مُدْهَامَّتَان‏}‏‏:‏ ممتلئتان من الخضرة‏.‏ وقال قتادة‏:‏ خضراوان من الري ناعمتان‏.‏ ولا شك في نضارة الأغصان على الأشجار المشبكة بعضها في بعض‏.‏ وقال هناك‏:‏ ‏{‏فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ‏}‏، وقال هاهنا‏:‏ ‏{‏نَضَّاخَتَان‏}‏، وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس‏:‏ أي فياضتان‏.‏ والجري أقوى من النضخ‏.‏

وقال الضحاك‏:‏ ‏{‏نَضَّاخَتَان‏}‏ أي ممتلئتان لا تنقطعان‏.‏

وقال هناك‏:‏ ‏{‏فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ‏}‏، وقال هاهنا‏:‏ ‏{‏فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ‏}‏، ولا شك أن الأولى أعم وأكثر في الأفراد والتنويع على فاكهة، وهي نكرة في سياق الإثبات لا تعم؛ ولهذا فسر قوله‏:‏ ‏{‏وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ‏}‏ من باب عطف الخاص على العام، كما قرره البخاري وغيره، وإنما أفرد النخل والرمان بالذكر لشرفهما على غيرهما‏.‏

قال عبد بن حميد‏:‏ حدثنا يحيى بن عبد الحميد، حدثنا حصين بن عمر، حدثنا مخارق، عن طارق بن شهاب، عن عمر بن الخطاب قال‏:‏ جاء أناس من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ يا محمد، أفي الجنة فاكهة‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏نعم، فيها فاكهة ونخل ورمان‏"‏‏.‏ قالوا‏:‏ أفيأكلون كما يأكلون في الدنيا‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏نعم وأضعاف‏"‏‏.‏ قالوا‏:‏ فيقضون الحوائج‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏لا ولكنهم يعرقون ويرشحون، فيذهب الله ما في بطونهم من أذى‏"‏‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي حدثنا الفَضْل بن دُكَيْن، حدثنا سفيان، عن حماد، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس قال‏:‏ نخل الجنة سعفها كسوة لأهل الجنة، منها مُقَطَّعَاتهم، ومنها حُلَلهم، وكَرَبُها ذهب أحمر، وجذوعها زمرد أخضر، وثمرها أحلى من العسل، وألين من الزبد، وليس له عجم‏.‏

وحدثنا أبي‏:‏ حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد- هو ابن سلمة- عن أبي هارون، عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏نظرت إلى الجنة فإذا الرّمانة من رمانها كمثل البعير المُقْتَب‏"‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ‏}‏ قيل‏:‏ المراد خيرات كثيرة حسنة في الجنة، قاله قتادة‏.‏ وقيل‏:‏ خيرات جمع خيرة، وهي المرأة الصالحة الحسنة الخُلُق الحسنة الوجه، قاله الجمهور‏.‏ وروي مرفوعا عن أم سلمة ‏.‏ وفي الحديث الآخر الذي سنورده في سورة ‏"‏الواقعة‏"‏‏:‏ أن الحور العين يغنين‏:‏ نحن الخيرات الحسان، خلقنا لأزواج كرام‏.‏ ولهذا قرأ بعضهم‏:‏ ‏"‏فيهن خَيّرات‏"‏، بالتشديد ‏{‏حِسَانٌ‏.‏ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ‏}‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ‏}‏، وهناك قال‏:‏ ‏{‏فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ‏}‏، ولا شك أن التي قد قَصَرَت طرفها بنفسها أفضل ممن قُصرت، وإن كان الجميع مخدرات‏.‏

قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا عمرو بن عبد الله الأودي، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن جابر، عن القاسم بن أبي بزَّة، عن أبي عبيدة، عن مسروق، عن عبد الله قال‏:‏ إن لكل مسلم خَيرة، ولكل خَيرة خيمة، ولكل خيمة أربعة أبواب، يدخل عليها كل يوم تحفة وكرامة وهدية لم تكن قبل ذلك، لا مَرّاحات ولا طَمّاحات، ولا بخرات ولا ذفرات، حور عين، كأنهن بيض مكنون‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فِي الْخِيَامِ‏}‏، قال البخاري‏:‏

حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عبد العزيز بن عبد الصمد، حدثنا أبو عمران الجوني، عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس، عن أبيه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إن في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوفة، عرضها ستون ميلا في كل زاوية منها أهلٌ ما يَرون الآخرين، يطوف عليهم المؤمنون‏"‏‏.‏

ورواه أيضا من حديث أبي عمران، به‏.‏ وقال‏:‏ ‏"‏ثلاثون ميلا‏"‏‏.‏ وأخرجه مسلم من حديث أبي عمران، به‏.‏ ولفظه‏:‏ ‏"‏إن للمؤمن في الجنة لخيمةً من لؤلؤة واحدة مجوفة، طولها ستون ميلا للمؤمن فيها أهل يطوف عليهم المؤمن، فلا يرى بعضهم بعضا‏"‏‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا الحسن بن أبي الربيع، حدثنا عبد الرزَّاق، أخبرنا معمر، عن قتادة، أخبرني خُلَيْد العَصَري، عن أبي الدرداء قال‏:‏ الخيمة لؤلؤة واحدة، فيها سبعون بابا من در‏.‏

وحدثنا أبي حدثنا عيسى بن أبي فاطمة، حدثنا جرير، عن هشام، عن محمد بن المثنى، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ‏}‏، وقال‏:‏ ‏[‏في‏]‏ خيام اللؤلؤ، وفي الجنة خيمة واحدة من لؤلؤة، أربع فراسخ في أربعة فراسخ، عليها أربعة آلاف مصراع من الذهب‏.‏

وقال عبد الله بن وهب‏:‏ أخبرنا عمرو أن دَرَّاجا أبا السَّمح حدثه، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ ‏"‏أدنى أهل الجنة منزلة الذي له ثمانون ألف خادم، واثنتان وسبعون زوجة، وتنصب له قبة من لؤلؤ وزبرجد وياقوت، كما بين الجابية وصنعاء‏"‏‏.‏

ورواه الترمذي من حديث عمرو بن الحارث، به‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ‏}‏‏:‏ ‏[‏قد‏]‏ تقدم مثله سواء، إلا أنه زاد في وصف الأوائل بقوله‏:‏ ‏{‏كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ‏.‏ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ‏}‏‏:‏ قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس‏:‏ الرفرف‏:‏ المحابس‏.‏ وكذا قال مجاهد، وعكرمة، والحسن، وقتادة، والضحاك، وغيرهما‏:‏ هي المحابس‏.‏ وقال العلاء بن بدر الرفرف على السرير، كهيئة المحابس المتدلي‏.‏

وقال عاصم الجحدري‏:‏ ‏{‏مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ‏}‏ يعني‏:‏ الوسائد‏.‏ وهو قول الحسن البصري في رواية عنه‏.‏

وقال أبو داود الطيالسي، عن شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في قوله‏:‏ ‏{‏مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ‏}‏ قال‏:‏ الرفرف‏:‏ رياض الجنة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ‏}‏‏:‏ قال ابن عباس، وقتادة، والضحاك، والسدي‏:‏ العبقري‏:‏ الزرابي‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ هي عتاق الزرابي، يعني‏:‏ جيادها‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ العبقري‏:‏ الديباج‏.‏

وسئل الحسن البصري عن قوله‏:‏ ‏{‏وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ‏}‏ فقال‏:‏ هي بسط أهل الجنة- لا أبا لكم- فاطلبوها‏.‏ وعن الحسن ‏[‏البصري‏]‏ رواية‏:‏ أنها المرافق‏.‏ وقال زيد بن أسلم‏:‏ العبقري‏:‏ أحمر وأصفر وأخضر‏.‏ وسئل العلاء بن زيد عن العبقري، فقال‏:‏ البسط أسفل من ذلك‏.‏ وقال أبو حَزْرَة يعقوب بن مجاهد‏:‏ العبقري‏:‏ من ثياب أهل الجنة، لا يعرفه أحد‏.‏ وقال أبو العالية‏:‏ العبقري‏:‏ الطنافس المخْمَلة، إلى الرقة ما هي‏.‏ وقال القتيبي‏:‏ كل ثوب مُوَشى عند العرب عبقري‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ هو منسوب إلى أرض يعمل بها الوشي‏.‏ وقال الخليل بن أحمد‏:‏ كل شيء يسر من الرجال وغير ذلك يسمى عند العرب عبقريا‏.‏ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في عمر‏:‏ ‏"‏فلم أر عبقريا يفري فريه‏"‏‏.‏

وعلى كل تقدير فصفة مرافق أهل الجنتين الأوليين أرفع وأعلى من هذه الصفة؛ فإنه قد قال هناك‏:‏ ‏{‏مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ‏}‏، فنعت بطائن فرشهم وسكت عن ظهائرها ، اكتفاءً بما مدح به البطائن بطريق الأولى والأحرى‏.‏ وتمام الخاتمة أنه قال بعد الصفات المتقدمة‏:‏ ‏{‏هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ‏}‏ فوصف أهلها بالإحسان وهو أعلى المراتب والنهايات، كما في حديث جبريل لما سأل عن الإسلام، ثم الإيمان‏.‏ فهذه وجوه عديدة في تفضيل الجنتين الأوليين على هاتين الأخيريين، ونسأل الله الكريم الوهاب أن يجعلنا من أهل الأوليين‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإكْرَامِ‏}‏ أي‏:‏ هو أهل أن يجل فلا يعصى، وأن يكرم فيعبد، ويشكر فلا يكفر، وأن يذكر فلا ينسى‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ ‏{‏ذِي الْجَلالِ وَالإكْرَامِ‏}‏ ذي العظمة والكبرياء‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا موسى بن داود، حدثنا عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، عن عمير بن هانئ، عن أبي العذراء، عن أبي الدرداء، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أجِدّوا الله يغفر لكم‏"‏‏.‏

وفي الحديث الآخر‏:‏ ‏"‏إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم، وذي السلطان، وحامل القرآن غير الغالي فيه ولا الجافي عنه‏"‏‏.‏

وقال الحافظ أبو يعلى‏:‏ حدثنا أبو يوسف الجيزي، حدثنا مؤمل بن إسماعيل، حدثنا حماد، حدثنا حميد الطويل، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ألظّوا بيا ذا الجلال والإكرام‏"‏‏.‏

وكذا رواه الترمذي، عن محمود بن غيلان، عن مؤمل بن إسماعيل، عن حماد بن سلمة، به‏.‏

وقال ابن طاهر‏:‏ ‏"‏وقد تابع المؤمل فيه روح بن عبادة وروح حافظ ثقة‏"‏‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا إبراهيم بن إسحاق، حدثنا عبد الله بن المبارك، عن يحيى بن حسان المقدسي، عن ربيعة بن عامر قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ألظوا بذي الجلال والإكرام‏"‏‏.‏

ورواه النسائي من حديث عبد الله بن المبارك، به‏.‏

وقال الجوهري‏:‏ ألظ فلان بفلان‏:‏ إذا لزمه‏.‏

وقول ابن مسعود‏:‏ ‏"‏ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام‏"‏ أي‏:‏ الزموا‏.‏ ويقال‏:‏ الإلظاظ هو الإلحاح‏.‏

قلت‏:‏ وكلاهما قريب من الآخر- والله أعلم- وهو المداومة واللزوم والإلحاح‏.‏ وفي صحيح مسلم والسنن الأربعة من حديث عبد الله بن الحارث، عن عائشة قالت‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم لا يقعد- يعني‏:‏ بعد الصلاة- إلا قدر ما يقول‏:‏ ‏"‏اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت ذا الجلال والإكرام‏"‏‏.‏

آخر تفسير سورة الرحمن، ولله الحمد ‏[‏والمنة‏]‏

تفسير سورة الواقعة

وهي مكية‏.‏

قال أبو إسحاق عن عِكْرِمَة، عن ابن عباس قال‏:‏ قال أبو بكر‏:‏ يا رسول الله، قد شبتَ‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏شيَّبتني هود، والواقعة، والمرسلات، وعَمَّ يتساءلون، وإذا الشمس كورت‏"‏‏.‏

رواه الترمذي وقال‏:‏ حسن غريب

وقال الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الله بن مسعود بسنده إلى عمرو بن الربيع بن طارق المصري‏:‏ حدثنا السُّرِّي بن يحيى الشيباني، عن أبي شجاع، عن أبي ظبية قال‏:‏ مرض عبد الله مرضه الذي توفي فيه، فعاده عثمان بن عفان فقال‏:‏ ما تشتكي‏؟‏ قال‏:‏ ذنوبي‏.‏ قال‏:‏ فما تشتهي‏؟‏ قال‏:‏ رحمة ربي‏.‏ قال ألا آمر لك بطبيب‏؟‏ قال‏:‏ الطبيب أمرضني‏.‏ قال‏:‏ ألا آمر لك بعطاء‏؟‏ قال‏:‏ لا حاجة لي فيه‏.‏ قال‏:‏ يكون لبناتك من بعدك‏؟‏ قال‏:‏ أتخشى على بناتي الفقر‏؟‏ إني أمرت بناتي يقرأن كل ليلة سورة الواقعة، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏من قرأ سورة الواقعة كل ليلة، لم تصبه فاقة أبدا‏"‏‏.‏‏.‏

ثم قال ابن عساكر‏:‏ كذا قال والصواب‏:‏ عن ‏"‏شجاع‏"‏، كما رواه عبد الله بن وهب عن السُّرِّي‏.‏ وقال عبد الله بن وهب‏:‏ أخبرني السُّرِّي بن يحيى أن شجاعا حَدَّثه، عن أبي ظَبْيَة، عن عبد الله بن مسعود، قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا‏"‏‏.‏ فكان أبو ظبية لا يدعها‏.‏

وكذا رواه أبو يعلى، عن إسحاق بن إبراهيم، عن محمد بن مُنِيب، عن السُّرِّي بن يحيى، عن شجاع، عن أبي ظَبْيَة، عن ابن مسعود، به‏.‏ ثم رواه عن إسحاق بن أبي إسرائيل، عن محمد بن مُنِيب العدني، عن السُّرِّي بن يحيى، عن أبي ظبية، عن ابن مسعود؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏من قرأ سورة الواقعة في كل ليلة، لم تصبه فاقة أبدا‏"‏‏.‏ لم يذكر في سنده ‏"‏شجاعا‏"‏‏.‏ قال‏:‏ وقد أمرت بناتي أن يقرأنها كل ليلة‏.‏

وقد رواه ابن عساكر أيضا من حديث حجاج بن نصير وعثمان بن اليمان، عن السري بن يحيى، عن شجاع، عن أبي فاطمة قال‏:‏ مرض عبد الله، فأتاه عثمان بن عفان يعوده، فذكر الحديث بطوله‏.‏ قال عثمان بن اليمان‏:‏ كان أبو فاطمة هذا مولى لعلي بن أبي طالب‏.‏

وقال ‏[‏الإمام‏]‏ أحمد‏:‏ حدثنا عبد الرزاق، حدثنا إسرائيل، ويحيى بن آدم، حدثنا إسرائيل، عن سِمَاك بن حرب؛ أنه سمع جابر بن سَمُرَة يقول‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الصلوات كنحو من صلاتكم التي تصلون اليوم، ولكنه كان يخفف‏.‏ كانت صلاته أخف من صلاتكم، وكان يقرأ في الفجر ‏"‏الواقعة‏"‏ ونحوها من السور‏.‏

بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 12‏]‏

‏{‏إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ‏}‏‏.‏

الواقعة‏:‏ من أسماء يوم القيامة، سميت بذلك لتحقق كونها ووجودها، كما قال‏:‏ ‏{‏فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 15‏]‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ‏}‏ أي‏:‏ ليس لوقوعها إذا أراد الله كونها صارف يصرفها، ولا دافع يدفعها، كما قال‏:‏ ‏{‏اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏47‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ‏.‏ لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏1، 2‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 73‏]‏‏.‏

ومعنى ‏{‏كَاذِبَة‏}‏- كما قال محمد بن كعب- ‏:‏ لا بد أن تكون‏.‏ وقال قتادة‏:‏ ليس فيها مثنوية ولا ارتداد ولا رجعة‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ والكاذبة‏:‏ مصدر كالعاقبة والعافية‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ‏}‏ أي‏:‏ تحفض أقواما إلى أسفل سافلين إلى الجحيم، وإن كانوا في الدنيا أعزّاء‏.‏ وترفع آخرين إلى أعلى عليّين، إلى النعيم المقيم، وإن كانوا في الدنيا وضعاء‏.‏ وهكذا قال الحسن وقتادة، وغيرهما‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا يزيد بن عبد الرحمن بن مصعب المعنى، حدثنا حميد بن عبد الرحمن الرؤاسي، عن أبيه، عن سِمَاك، عن عِكْرِمَة، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ‏}‏ تخفض أناسًا وترفع آخرين‏.‏

وقال عبيد الله العتكي، عن عثمان بن سراقة، ابن خالة عمر بن الخطاب‏:‏ ‏{‏خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ‏}‏ ‏[‏قال‏]‏‏:‏ الساعة خفضت أعداء الله إلى النار، ورفعت أولياء الله إلى الجنة‏.‏

وقال محمد بن كعب‏:‏ تخفض رجالا كانوا في الدنيا مرتفعين، وترفع رجالا كانوا في الدنيا مخفوضين‏.‏

وقال السُّدِّيّ‏:‏ خفضت المتكبرين، ورفعت المتواضعين‏.‏

وقال العَوْفِيّ، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ‏}‏ أسمعت القريب والبعيد‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ خفضت فأسمعت الأدنى، ورفعت فأسمعت الأقصى‏.‏ وكذا قال الضحاك، وقتادة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِذَا رُجَّتِ الأرْضُ رَجًّا‏}‏ أي‏:‏ حركت تحريكا فاهتزت واضطربت بطولها وعرضها‏.‏ ولهذا قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وغير واحد في قوله‏:‏ ‏{‏إِذَا رُجَّتِ الأرْضُ رَجًّا‏}‏ أي‏:‏ زلزلت زلزالا ‏[‏شديدا‏]‏‏.‏

وقال الربيع بن أنس‏:‏ ترج بما فيها كرج الغربال بما فيه‏.‏

وهذه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذَا زُلْزِلَتِ الأرْضُ زِلْزَالَهَا‏}‏ ‏[‏الزلزلة‏:‏ 1‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 1‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا‏}‏ أي‏:‏ فُتِّتَتْ فَتًّا‏.‏ قاله ابن عباس، ومجاهد، وعِكْرِمَة، وقتادة، وغيرهم‏.‏

وقال ابن زيد‏:‏ صارت الجبال كما قال ‏[‏الله‏]‏ تعالى‏:‏ ‏{‏كَثِيبًا مَهِيلا‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 14‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا‏}‏، قال أبو إسحاق، عن الحارث، عن علي، رضي الله عنه‏:‏ ‏{‏هَبَاءً مُنْبَثًّا‏}‏كرهَج الغبار يسطع ثم يذهب، فلا يبقى منه شيء‏.‏

وقال العَوْفِيّ عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا‏}‏‏:‏ الهباء الذي يطير من النار، إذا اضطرمت يطير منه الشرر، فإذا وقع لم يكن شيئا‏.‏

وقال عكرمة‏:‏ المنبث‏:‏ الذي ذرته الريح وبثته‏.‏ وقال قتادة‏:‏ ‏{‏هَبَاءً مُنْبَثًّا‏}‏ كيبيس الشجر الذي تذروه الرياح‏.‏

وهذه الآية كأخواتها الدالة على زوال الجبال عن أماكنها يوم القيامة، وذهابها وتسييرها ونسفها- أي قلعها- وصيرورتها كالعهن المنفوش‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً‏}‏ أي‏:‏ ينقسم الناس يوم القيامة إلى ثلاثة أصناف‏:‏ قوم عن يمين العرش، وهم الذين خرجوا من شق آدم الأيمن، ويؤتون كتبهم بأيمانهم، ويؤخذ بهم ذات اليمين‏.‏ قال السُّدِّيّ‏:‏ وهم جمهور أهل الجنة‏.‏ وآخرون عن يسار العرش، وهم الذين خرجوا من شق آدم الأيسر، ويؤتون كتبهم بشمائلهم، ويؤخذ بهم ذات الشمال، وهم عامة أهل النار- عياذًا بالله من صنيعهم- وطائفة سابقون بين يديه وهم أخص وأحظى وأقرب من أصحاب اليمين الذين هم سادتهم، فيهم الرسل والأنبياء والصديقون والشهداء، وهم أقل عددا من أصحاب اليمين؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ‏.‏ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ‏.‏ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ‏}‏ وهكذا قسمهم إلى هذه الأنواع الثلاثة في آخر السورة وقت احتضارهم، وهكذا ذكرهم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ‏}‏ الآية ‏[‏فاطر‏:‏32‏]‏، وذلك على أحد القولين في الظالم لنفسه كما تقدم بيانه‏.‏

قال سفيان الثوري، عن جابر الجعفي، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً‏}‏ قال‏:‏ هي التي في سورة الملائكة‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ‏}‏‏.‏

وقال ابن جُرَيْج عن ابن عباس‏:‏ هذه الأزواج الثلاثة هم المذكورون في آخر السورة وفي سورة الملائكة‏.‏

وقال يزيد الرقاشي‏:‏ سألت ابن عباس عن قوله‏:‏ ‏{‏وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً‏}‏ قال‏:‏ أصنافا ثلاثة‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً‏}‏ ‏[‏قال‏]‏ ‏:‏ يعني‏:‏ فرقا ثلاثة‏.‏ وقال ميمون بن مِهْران‏:‏ أفواجا ثلاثة‏.‏ وقال عُبَيد الله العتكي، عن عثمان بن سراقة ابن خالة عمر بن الخطاب‏:‏ ‏{‏وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً‏}‏ اثنان في الجنة، وواحد في النار‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا محمد بن الصباح، حدثنا الوليد بن أبي ثور، عن سِمَاك، عن النعمان بن بشير قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 7‏]‏ قال‏:‏ الضرباء، كل رجل من قوم كانوا يعملون عمله، وذلك بأن الله يقول‏:‏ ‏{‏وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً‏.‏ فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ‏.‏ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ‏.‏ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ‏}‏ قال‏:‏ هم الضرباء‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا محمد بن عبد الله المثنى، حدثنا البراء الغنوي، حدثنا الحسن، عن معاذ بن جبل؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ‏}‏ ، ‏{‏وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ‏}‏ فقبض بيده قبضتين فقال‏:‏ ‏"‏هذه للجنة ولا أبالي، وهذه للنار ولا أبالي‏"‏‏.‏

وقال أحمد أيضا‏:‏ حدثنا حسن، حدثنا ابن لَهِيعَة، حدثنا خالد بن أبي عمران، عن القاسم بن محمد، عن عائشة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال‏:‏ ‏"‏أتدرون من السابقون إلى ظل يوم القيامة‏؟‏‏"‏ قالوا‏:‏ الله ورسوله أعلم‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏الذين إذا أعطوا الحق قبلوه، وإذا سئلوه بذلوه، وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم‏"‏‏.‏

وقال محمد بن كعب وأبو حَرْزَةَ يعقوب بن مجاهد‏:‏ ‏{‏وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ‏}‏‏:‏ هم الأنبياء، عليهم السلام‏.‏ وقال السُّدِّيّ‏:‏ هم أهل عليين‏.‏ وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ‏}‏، قال‏:‏ يوشع بن نون، سبق إلى موسى، ومؤمن آل ‏"‏يس‏"‏، سبق إلى عيسى، وعلي بن أبي طالب، سبق إلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ رواه ابن أبي حاتم، عن محمد بن هارون الفلاس، عن عبد الله بن إسماعيل المدائني البزاز، عن شُعَيْب بن الضحاك المدائني، عن سفيان بن عُيَيْنَة، عن ابن أبي نَجِيح به‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ وذكر محمد بن أبي حماد، حدثنا مِهْرَان، عن خارجة، عن قُرَّة،َ عن ابن سِيرين‏:‏ ‏{‏وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ‏}‏ الذين صلوا للقبلتين‏.‏

ورواه ابن جرير من حديث خارجة، به‏.‏

وقال الحسن وقتادة‏:‏ ‏{‏وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ‏}‏ أي‏:‏ من كل أمة‏.‏

وقال الأوزاعي، عن عثمان بن أبي سودة أنه قرأ هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ‏.‏ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ‏}‏ ثم قال‏:‏ أولهم رواحًا إلى المسجد، وأولهم خروجًا في سبيل الله‏.‏

وهذه الأقوال كلها صحيحة، فإن المراد بالسابقين هم المبادرون إلى فعل الخيرات كما أمروا، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأرْضُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 133‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأرْضِ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 22‏]‏، فمن سابق إلى هذه الدنيا وسبق إلى الخير، كان في الآخرة من السابقين إلى الكرامة، فإن الجزاء من جنس العمل، وكما تدين تدان؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ‏.‏ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ‏}‏‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا يحيى بن زكريا القزاز الرازي، حدثنا خارجة بن مُصعَب، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن عبد الله بن عمرو قال‏:‏ قالت الملائكة‏:‏ يا رب، جعلت لبني آدم الدنيا فهم يأكلون ويشربون ويتزوجون، فاجعل لنا الآخرة‏.‏ فقال‏:‏ لا أفعل‏.‏ فراجعوا ثلاثا، فقال‏:‏ لا أجعل من خلقت بيدي كمن قلت له‏:‏ كن، فكان‏.‏ ثم قرأ عبد الله‏:‏ ‏{‏وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ‏.‏ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ‏.‏ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ‏}‏‏.‏

وقد روى هذا الأثر الإمام عثمان بن سعيد الدارمي في كتابه‏:‏ ‏"‏الرد على الجهمية‏"‏، ولفظه‏:‏ فقال الله عز وجل‏:‏ ‏"‏لن أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي، كمن قلت له‏:‏ كن فكان‏"‏‏.‏